الاحتلال الكشي
تعرض العراق للاحتلال الكشي (1595-1157ق.م) وهم قوم اجانب من أواسط جبال زاجروس تغلغلوا في المجتمع البابلي وساتغلوا فرصة سقوط بابل على يد الحثيين (1595ق.م) فغزوا الدولة واتخذوا من (دور كوريكا لزو) عاصمة لهم. وكانت لهم صلات بمصر واتسم عصرهم باستخدام الحصان في النقل والعربات في الحروب لذلك اهتموا بالخيل وانسابها. وواجهوا غزو العيلاميين وتهديدات الاشوريين معاً إلى ان استطاع العيلاميون القضاء على الحكم الكشي في حدود (1157 ق.م) ودموروا بابل ومدناً عراقية أخرى وسلبوا ممتلكاتها بما في ذلك مسلة النصر ومسلة حمورابي أيضاً وتمثال مردوخ كبير الالهة البابلية.
النضال ضد الاحتلال
اتجه البابليون إلى الأدب واحياء التراث واستثارة الهمم والتجارة عندما خضع المجتمع للاحتلال. والراجح انهم افادوا من ذلك في تعزيز قدراتهم ثم القيام بالثورة بقيادة زعيم من مدينة ايسن اسمه (مردوخ-كابت-اخبشو) وطرد الحامية العيلامية واقامة سلالة وطنية في ايسن (1156-1025ق.م) ومن أبرز ملوكها نبوخذ نصر الأول (1124-1103 ق.م) الذي اعاد ثقة الشعب بنفسه ورفع هيبة الحكم ووجه جهوده إلى محاربة العيلاميين فباغتهم في شهر تموز القائظ إذ لم يكونوا يتوقعون ذلك والحق بهم هزيمة كبيرة.وكان العصر الذي تلا نبوخذ نصر يحفل بالمتغيرات. فالاشوريون ظهروا قوة مؤثرة في شمالي وادي الرافدين في 1200 ق.م وازدادت في الوقت نفسه اعداد القبائل الأرامية في بلاد بابل وازدادت ضغوطها السياسية. وعندما نجح الاراميون في انتزاع السلطة في بابل كان واضحاً ان فترة من الصراع لحسم مسألة قيادة العراق قد بدأت.
الأشوريون
استوطن الآشوريون القسم الشمالي من العراق الذي عرف في النصوص المسمارية بـ"بلاد أشور". وهو كبقية أقسام العراق شهد حياة إنسان العصر الحجري القديم في وقت مبكر قبل قسمه الجنوبي، ونشأت أيضاً القرى الزراعية في العصر الحجري الحديث، غير أن طبيعة المنطقة في مناخها وتضاريسها ساعدت على بقاء الجماعات البشرية مبعثرة وظهر اثر التطور الحضاري في جنوب العراق واضحاً في بلاد اشور خصوصاً بعد ما أصبحوا جزءاً منها سياسياً وثقافياً منذ زمن لوكالة زاكيزي وسرجون الاكدي. وواجهت بلاد أشور الأخطار التي واجهها السومريون والاكديون وانضوت المنطقة ثانية في الوحدة التي حققها حمورابي، واسهم عنف التحديات المحيطة ببلاد أشور من الشمال والشرق في خلق مجتمع يعلق أهمية على الروح الحربية التي منحت المجتمع قادة عسكريين عظاماً في فترة بروز الاشوريين (1521-911 ق.م) احدى القوى الرئيسة في المنطقة إلى جانب الكشيين والمصريين بعد سقوط بابل دون ان ينسوا دورهم في توحيد بلاد وادي الرافدين والدفاع عنها من القوى المحتلة او التي تسعى إلى احتلالها، وقد عززت هذه الوحدة التمازج البشري في العراق وعممت المبتكرات الحضارية.
وفي الحقبة اللاحقة (911-612 ق.م) ازدهر تاريخ الشوريين السياسي والثقافي والاقتصادي وظهرت علي مسرح الأحداث أول إمبراطورية عندما نجح الاشوريون في ضم معظم أقاليم الشرق الأدنى القديم، إمبراطورية اشتهرت بإبداعها الحضاري وشهدت تطور المدن الاشورية من مثل اشور ونينوى وكالح (نمرود) ودور شروكين 0خرسباد) بقصورها وزقوراتها واسوارها وما حوت من قطع فنية رائعة فضلاً عن الاعمال العسكرية والثقافية ولا سيما تلك التي حوتها مكتبة اشور بانيبال وكانت سجلاً للحياة العراقية القديمة. لقد نجح الاشوريون في قيادة العراق في عصر القوى الخارجية الطامعة كالكيشيين والحثيين والميتانيين إلى جانب الدولة المصرية. غير ان هذا الوضع لم يستمر، فهذه القوى بدأت تختفي عن مسرح الاحداث منذ مطلع الالف الأول ق.م وبدأت منطقة الشرق الادنى القديم تشهد تغيراً في الخريطة البشرية ترتب عليه تغير في القوى السياسية الفاعلة في المنطقة. فعلى المستوى الداخلي بدأت موجات الاراميين تضغط على الحدود الغربية منطلقة من دويلاتها المتعددة في بلاد الشام إلى جانب انتشار القبائل الكلدية في جنوب العراق وتأسيسها سلالات محلية كانت تطمح في السيطرة على بابل. أما على المستوى الخارجي فقد ازدادت حوادث القبائل الجبلية على الحدود الشمالية والشمالية الشرقية من خلال دولها في اوراتو وميديا، وكانت عيلام في غربي إيران تمارس تحريضها في ذات الوقت الذي كان فيه اليهود في فلسطين يمارسون الشغب على الدولة الاشورية مستغلين تنافسها مع الدولة المصرية.
تكشف وثائق العصر الاشوري الحديث عن نشاط عسكري كان غرضه تأمين حدود الدولة والقضاء على معارضيها كما تكشف، في الوقت نفسه، عن نشاط حضاري ثقافي واداري وسياسي واقتصادي واسع النطاق قاده ملوك عظام غير ان الفترة المتأخرة بعد حكم اشور بانيبال تبدو غامضة في المصادر الاشورية، والراجح انها شهدت ملوكاً ضعفاء على المستوى الداخلي ومؤامرات واسعة محلية ومتغيرات حادة في الاوضاع الخارجية في الوقت الذي ظهر فيه زعيم كلدي قوي هو نابو-بولاصر الذي نصب نفسه ملكاً على بابل سنة 626 ق.م وبسط نفوذه على العراق بما فيه الدولة الاشورية.
سلالة بابل الحديثة (626-539 ق.م)
ظهر الكلديون في الخليج العربي منطلقين من اراضيهم المجاورة للسبئيين، وهذا يضعنا أمام احتمالين: أما مجاورتهم السبئيين في اليمن ومن ثم تقدمهم نحو العراق عبر جنوبي الجزيرة وشرقيها بمحاذاة الخليج العربي واما مجاورة السبئيين في شمال غري الجزيرة العربية حيث محطات التجارة السبئية ثم بدأ تقدمهم من هناك باتجاه الخليج والعراق. ويرجح المؤرخون الاحتمال الأول مستندين إلى وجود كتابات بالعربية الجنوبية في مدن جنوبي العراق مثل اور والوركاء ونفر أو وصلوا منحدرين إلى سوريا مع الفرات ثم اتجهوا جنوباً. مارس الكلديون دورهم السياسي انطلاقاً من وضعهم الاجتماعي بوصفهم جزءاً من سكان العراق بقيادة الاشوريين فكانوا يحكمون باسم الاشوريين في بابل إلى ان انتزعوا الحكم في عهد نابو – بولاصر. واشتهر من ملوكهم نبوخذ نصر (604-562 ق.م) بحروبه التي ثبت بها الدولة خصوصاً في بلاد فلسطين ضد الشعب اليهودي وبميوله العمراني وبقيادته الحكيمة وبالسياسة والإدارة وتثبيت كيان موحد للدولة. ويتميز عهد الكلديين ببعث الثقافة العراقية القديمة ولا سيما في حقول الادب والعلوم والمعارف الأخرى والاهتمام بالماضي وجمع مخلفات الملوك العظام وهو اتجاه واضح في حياة نبوخذ نصر ونبونئيد اخر الملوك الكلديين.
لقد اعقب نبوخذ نصر ملوك ضعاف ربما كان جل اهتمامهم منصباً على تحالفاتهم مع الميديين والاخمينيين (من الشعوب الفارسية) إلا ان الملك نبونئيد حاول الوقوف في وجه تلك التحديات عبر محاولاته مع سكان حران والجزيرة العربية من أجل توحيد الجهود لصد الهجمة المتوقعة القادمة من بلاد إيران، غير ان جهوده جاءت متأخرة فاستغل الفرس الاخمينيون هذا الواقع المتردي وتقدموا بقيادة كورش مستفيدين من تحالفاتهم مع اليهود ومع احد الطامعين من اعوان الملك البابلي ليدخلوا بابل وينهوا الدولة الكلدية سنة 539 ق.م.
العراق في الفترة الاحتلالية الأولى (539ق.م –635م)
كان دخول كورش مدينة بابل سنة 539 قز/ بداية لفترة احتلالية طويلة تعددت فيها الاطراف التي مارست احتلال العراق واستمرت حتى دخول العرب المحررين بقيادة سعد بن ابي وقاص المدائن وانهاء الاحتلال الفارسي الساساني سنة 635م. لقد حاول الاخمينيون في البداية تطبيق سياسة استرضاء سكان وادي الرافدين مكتفين بحيازتهم لقب (ملك بابل) وما يرمز إليه من معانٍ حضارية، غير أنهم لم يستطيعوا الاستمرار على هذه السياسة خصوصاً بعد ان ثارت مدينة بابل وتكررت ثوراتها مما دفع المحتلين إلى ممارسة قتل السكان في العراق ومدينتهم العظيمة بابل وتشريدهم وحرقهم.
وتكشف الوثائق المعاصرة للاحتلال الفارسي الاخميني عن ثقل الضرائب المفروضة على السكان فضلاً عن تطبيق سياسة اقتصادية تدميرية اعتمدت نظام الإقطاع وتجنيد الفلاحين في الجيش الفارسي وانهاء دور المعابد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وظهور المصارف التي كانت تدار بتعاون يهودي فارسي. أما في المجال الاجتماعي فقد انتهج الفرس سياسة سيئة شملت بيع النساء واسترقاقهن. وانتهجوا أيضاً سياسية توطين الفرس وبخاصة رجال الدين المجوس ببلاد بابل في محاولة لفرض طبقة ثقافية وثقافة دخيلة على المجتمع غير ان اقصاء الكهنة والكتاب البابليين الذي سار عليه الفرس لم ينه دورهم اذ سرعان ما اتحدوا ونشطوا في دور علمي وفكري ظهرت نتائجه في وقت لاحق في حين لم يستطع الفرس خلق أي ثقافة في العراق وقوا محض محتلين يمتلكون القوة ولا يمتلكون الأبداع.
وازداد تمسك المجتمع بثقافته الوطنية واصبح اسم نبوخذ نصر رمزاً للوطنية، واتخذه اسماً كل ثائر ظهر في بلاد بابل مما يدلل على فعل الذاكرة التاريخية في صنع المواقف السياسية. ويظهر من قوائم اسماء المولودين في عهد الاحتلال تدني نسبة الذين سموا ابناءهم باسماء فارسية على خلاف الفرس الذين انتقلوا إلى العراق واليهود الذين اتخذوا الاسماء البابلية بكثرة. ولم يعتنق السكان الديانة الزرادشية، فلم تكشف البقايا الاثارية أيو اثار لمعبد نار في العراق. انتهى الاحتلال الفارسي على يد الاسكندر المقدوني (331-323 ق.م) الذي تقدم على رأس جيش اغريقي-مقدوني ليهزم دارا الثالث ويدخل بابل ويستولى على املاك الاخمينيين في العراق وعيلام وفارس. وبعد وفاته قسمت امبراطوريته بين قادته وكان العراق من نصيب سلوقي عام 311 ق.م مؤسس الدولة السلوقية، وقد اتسم عهدها بالأضطرابات والنزاعات بين الطامعين في حين وقف السكان موقفاً سلبياً ن تلك الاحداث، وادى انشغال المحتلين بخلافاتهم إلى استعادة بعض المؤسسات البابلية بخاصة المعبد دورها في الحياة وظهر الدور العلمي والفكري لبابل التي قصدها العلماء اليونانيون طلاباً للعلم.
لجأ اليونانيون إلى الغاء الدور المحلي للمجتمعات المحتلة وتخطيط عالم جديد بقوة اليونانيين فشيدوا مدناً جديدة خصصت لليونانيين، غير ان سياستهم لم تفلح واضطروا إلى اعطاء المجتمع البابلي دوراً فعادت المدن البابلية الكبيرة إلى دورها السابق ولكن بطابع جديد يطمس معالم الحضارات القديمة ويلغي دور العراقيين في التقدم العلمي الذي سلبوا معه أسماء المبدعين فاطلقوا عليهم أسماء اغريقية أو غلفوا أسماءهم بأسماء يونانية لاسدال الستار على كل ما هو عراقي ونسبته إلى انفسهم.
ومع اشتداد الصراعات الداخلية بين القادة اليونانيين ظهر الفرثيون في شمال إيران واستطاعوا الانقضاض على العراق مستغلين الاضطرابات التي رافقت وفاة الحاكم السلوقي انطيوخوس الرابع.
الفرثيون 140 ق.م –226م
دخل الفرثيون سنة 140 ق.م واتخذوا لهم معسكراً عرف فيما بعد بطيسفون في حين ظهرت امارات عربية على امتداد نهر الفرات ولا سيما امارة بيت عديني الكلدية وامارة كرخ ميسان في جنوبي العراق وامارة الحضر في شمالي العراق. واستقل متغلب من خارج السلالة الفرثية ببابل فاقتصر حكم الفرثيين على شمالي العراق الذي تعرض في زمنهم لهجمات الرومان، غير ان الدولة الفرثية استمرت إلى 226م إذ استطاع الفرس الساسانيون دخول طيسفون (المدائن) وقتل الملك الفرثي واحتلال العراق.
الاحتلال الساساني 224م – 635م
استولى الساسانيون أولاً على إيران الفرثية ثم توجهوا إلى طيسفون سنة 224م واستولوا على بابل واتسم حكمهم على المستوى العالمي بحروبهم مع الرومان، وعلى المستوى الداخلي بالانقسامات في الاسرة الحاكمة وظهور الديانة المانوية وبكثرة الحروب بين الفرس والعرب الذين ازداد ضغطهم على الفرس واستمر تدفقهم باتجاه جنوبي العراق ووسطه وإلى منطقة الجزيرة، فقد تقدمت قبيلة قضاعة إلى الحيرة وبادية السماوة وتقدم قسم منها إلى الحضر تلته قنص بن معد واياد وعبد القيس وربيعة وبكر بن وائل بخاصة وبعض مضر ويشار إلى خليط قبلي من الازد وكلب وحنظلة وتميم في الاحواز، وفي حين عبرت حملة سابور ذي الاكتاف عل القبائل العربية في العراق وشبه الجزيرة عن اصرار الفرس على اقصاء العرب من العراق وتذويب سكانه القدماء بمنع تواصلهم مع اخوانهم عرب الجزيرة عبر التحرك البشري للقبائل العربية عن اصرار على التوجه إلى العراق وقد تركز انتشارها في غربي الفرات، إذ بدأ من الابلة صعوداً إلى اعالي الفرات وكانت تغتنم الفرص للاندفاع نحو الداخل بثلاثة اتجاهات: الأول نحو الاحواز (بنو العم وقبلهم عرب امارة كرخ ميسان) والثاني نحو دجلة من منطقة بادية السماوة (قضاعة) والثالثة نحو الجزيرة بدءاً من تكريت إلى اعالي دجلة والفرات (اياد وقضاعة وربيعة). وفي سبيل تحقيق هذا الانتشار خاضوا حروباً طوالاً مع الفرس في عهد سابور ذي الاكتاف وبعده. ويكشف توزيع العرب في العراق قبل الاسلام عن انتشارهم في معظم انمائه. وبعد ظهور امارة الحيرة في اوائل القرن الثالث الميلادي احدى ثمار هذا التحرك الواسع الذي مارسوه واخذ فيما بعد في زمن النعمان بن المنذر أمير الحيرة بعده الثقافي كما سنرى.
الحضــر
ظهرت الحضر ابان حقبة التسلط الفرثي على العراق وقد اسستها جماعات من الازد من قضاعة. وقد عرف احد ملوكها سنطرق بكتابته الشهيرة (سنطرق ملك عربو) أي سنطرق ملك العرب، ولأن الحضر من مدن العرب الصحراوية الشهيرة، مثلها مثل البتراء وتدمر، فأن قصتها نمواً ودماراً لاتختلف كثيراً عن قصص الاخريات، فقد قاومت طموحات سكانها السلطتين الرومانية والفارسية أمداً طويلاً ولكن الرومان والفرس دمروها جميعاً واحدة بعد الأخرى، وكان نصيب الحضر ان يدمرها الفرس الساسانيون.
وذكر المؤرخون الرومان فشل محاولات تراجان وسبتموس سيفروس احتلال الحضر، وكذلك اردشير بادئ ذي بدء. ويروى عن حصار سبتموس سيفروس اياها عام 199م بعد ان احتل كلا من بابل وسلوقية وطيسفون ان سكانها دافعوا عنها دفاعاً عنيداً، وانهم استخدموا اقواساً مركبة ترمي سهمين مرة واحدة، وانهم قتلوا بعضاً من الحرس الخاص بالأمبراطور.
كما قاموا بحرق النفط وقذف الجرار المملوءة بالحشرات فوق رؤوس الغزاة. وعندما حقق الرومان فتح ثغرة في السور الخارجي فرحوا بذلك طمعاً بالمغانم التي سيغنمونها في اليوم التالي ولكنهم فوجئوا باهل الحضر وهم يسدون الثغرة في اليوم نفسه، وعندئذ اصابتهم الخيبة واستبد بهم الغضب، ورفضوا التقدم. واضطر سبتموس سيفروس إلى العودة إلى سوريا بعد عشرين يوماً من حصاره الحضر.
ويبدو ان مدينتي بابل والحضر بقيتا عاملي جذب واغراء على الدوام لجيوش الغرب التي غزت الرافدين. فقد طمع الرومان بكنوز معبد الشمس في الحضر، كما كانت قصة موت الاسكندرية في بابل واحلامه بجعلها عاصمة له تثير لديهم الرغبة في دخولها حتى ان تراجان قدم القرابين في الرغفة نفسها التي مات فيها الاسكندر عندما كان في بابل ربيع عام 116 ميلادية، أي بعد مرور أكثر من 400 سنة على موت الاسكندر. أما الفرثيون والساسانيون فقد عقدوا امالهم على احتلال سلوقية وطيسفون لضمان السيطرة على العاصمة السياسية قبل اهتمامهم ببابل، بل ان الساسانيين اسهموا في تدمير بابل تدميراً نهائياً، وجعلوها مهجورة إلى الابد قبل ان ينتهي القرن الخامس الميلادي، ومع ان الروايات تذكر ان اسوار بابل كانت ما تزال قائمة غير انها من الداخل كانت خرائب يسرح فيها الوحش، وان ملوك ساسان اتخذوها مربعاً من مرابع الصيد والنزهة ولا شيء غيرهما.
دولة الحيـرة
استمرت الممالك العربية في الظهور في مناطق الفرات الوسطى والجنوبية منذ العصر السلوقي، وكانت اخرها مملكة الحيرة على الضفة الغربية للفرات، في منطقة الكوفة الان وكانت حدود هذه المملكة تمتد في بلاد بابل على الفرات إلى الخليج العربي، ويعتقد المؤرخون ان الحيرة ظهرت مدينة عربية في الربع الأول من القرن الثالث الميلادي، وقد اختلفت الآراء في أصل عرب الحيرة فقيل انهم من اليمن ومن عرب الجنوب من عشائر قضاعة والازد، وهنالك من يعتقد انهم من العرب الشماليين بدليل التشابه اللغوي بينهم وبين اللهجة العدنانية. وربما كانوا مجموعة متحالفة من القبائل العربية الشمالية والقبائل الكلدية التي استوطنت بعد سقوط بابل المنطقة نفسها، كما انها (أي مملكة الحيرة) سيطرت على المنطقة نفسها بحدودها الجغرافية – السياسية التي كانت تحت سيطرة مملكة بيت عديني عند بداية الاحتلال الفرثي لبلاد الرافدين. وقد اجمع المؤرخون، اعتماداً على المصادر العربية، ان سكان الحيرة كونوا تآلفاً من ثلاث مجاميع بشرية، هي:
1-اللخميون (آل نصر بن ربيعة): النازحون من الجزيرة.
2-العباد: من السكان الاصليين (أي من قبائل كلدة التي كانت تسكن المنطقة نفسها).
3-الاحلاف: عرب مهاجرون نزلوا في المنطقة، وحالفوا تنوخ والعباد.
لقد حكم الحيرة (25) ملكاً، منهم خمسة من الأوائل الذين ترون عنهم بعض القصص غير الواقعية. اما الملك الأول الذي حكم الحيرة فعلاً وثبت وجوده بنص مكتوب فهو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي وقد ذكر في النص أنه وصل اسوار نجران، وكان له من ابنائه سفراء لدى الفرس والروم، وعاش ملكاً في حدود 288-328م