الحمد لله رب العالمين ,والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحابته والتابعين إلى يوم الدين...
فإن من سوابغ نعم الله تعالى على خير أمة أخرجت للناس إكرامها بكتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد, ومما اشتمل عليه القرآن من آيات العظمة والجلال
-وكله كذلك- البسملةُ التي افتُتحت بها أم الكتاب وسأتطرق في عجل إلى ما يلي في تفسيرها بعد استمداد العون من ربي المعين:
1- سببِ نزولها.
2- معنى لفظ (بسملة) وإعرابها.
3- شرحِها .
4- البسملة عند القراء والفقهاء.
والله أسألُ أن يكرمني في هذا العمل بالإخلاص والقبول إنه ولي ذلك والقادر عليه,وهو بلا ريب قريبٌ مجيب الدعاء,وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين...
1- سبب النزول,وتاريخه:
لم أجد في ما طالعتُ من كتب التفسير سببا خاصا لنزول البسملة لوحدها,وذلك أن آيَ القرآن لا يلزمُ أن يكون لكل منها سببُ نزول مستقل,إذ يرِدُ بعضها وينزلُ من الله ابتداءاً,وقد ورد سببان لنزول البسملة كما ذكر ذلك الواحدي رحمه الله إلا أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتابه العجاب في بيان الأسباب تعقَّب الواحدي -رحمه الله- في آثارٍ ذكرها مستدلاً بها على سبب نزول البسملة فقال
ثم أسند من طريق أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: أول ما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قال:{يا محمد استعذ ثم قل:بسم الله الرحمن الرحيم} والراوي له عن أبي رويق ضعيفٌ فلا ينبغي أن يُحتَجَّ به.
ثم أسند من طريق من طريق يزيد النحوي عن عكرمة والحسن قالا:{أول ما نزل من القرآن:بسم الله الرحمن الرحيم}.وهذا مرسل,ولعل قائله تأول الأمر في قوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وإلى ذلك أشار السهيلي فقال: يستفاد من هذه الآية ابتداءُ القراءة بالبسملة,وأما خصوص نزول البسملة سابقا ففي صحته نظرٌ.)
ثم قال عقب ذلك(ثم أسند من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم السورة حتى ينزَل عليه بسم الله الرحمن الرحيم- وهذا رواته ثقات.
وأخرجه أبو داود لكنه اختُلف في وصله وإرساله,وأورد الواحدي له شاهدين بسندين ضعيفين.
قال الجعبري:يؤخذ من هذا أن لنزول البسملة سببين,أحدهما:التبرك بالابتداء بها,والثاني:الفصل بين السورتين والله أعلم) العجاب في بيان الأسباب,لابن حجر,تحقيق:عبد الحكيم محمد الأنيس,ص/243
أما فيما يتعلق بتاريخ نزولها فقد قيل إنها أول ما نزل من القرآن الكريم ولكن في عدم تقييد ذلك بأوائل السور نظرٌ,حيث يرى الإمام السيوطي رحمه الله أنها هي أول آية نزلت على الإطلاق لحاجة أول السورة إليها , قال رحمه الله عند ذكره لأقوال العلماء في أول ما نزل,وقد جعل القول بأن البسملة هي أول ما نزل رابعَ تلك الأقوال(وعندي أن هذا لا يعد قولاً برأسه,فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها,فهي أول آية نزلت على الإطلاق.)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي1/72
2- معنى كلمة البسملة وإعرابها:
في اللغة العربية ما يسمَّى بالنحت في النسب,وهو نحت لفظ واحد من اسمين مشتركين أصلاً,كقول دمعزَ فيمن قال: أدام الله عزك,وحوقل فيمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله,وبسمل فيمن قال: بسم الله الرحمن الرحيم...الخ.
قال السمين الحلبي رحمه الله (وهي لغة مولدة,وقد جاءت في الشعر,قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها *** ألا حبذا ذاك الحبيب المبسمِلُ
وغيره من أهل اللغة نقلها ولم يقل إنها مولدة كثعلب والمطرز)
الدر المصون1/13
وإعرابُها مختلفٌ بحسب اختلاف النحاة في التقدير المحذوف قبلها على وجهين:
(الباء): حرف جرٍّ.
(اسمِ): اسم مجرورٌ.
والجار والمجرور على القول بأن المحذوف مبتدأٌتقديره
ابتدائي باسم الله) يكونان في محل رفعٍ خبرٌ,على القول بأن المحذوف المقدَّر فعلٌ تقديره (أبتدئ باسم الله) يكونان في محل نصب مفعول به والفاعل ضميرٌ مستترٌ تقديره أنا.
الرحمنِ الرحيمِ:صفتان مجرورتان تبعاً للموصوف.
3-شرحها:
لا شك أن إعراب البسملة السابقَ يوضح معناها المراد من طلب البركة والاستعانة بالله تعالى على ما يبمَل عليه من منطوق ومفعول,ولكني وجدت صياغة لمعنى البسملة الإجمالي يؤدي الغرض على أكمل وجه واستحسنت إيراده حيث قال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى (إن الله تعالى ذكره وتقدست أسمائه أدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله,وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته,وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه,سنة يستنون بها,وسبيلا يتبعونه عليها,في افتتاح أول منطقهم,وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم,حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل بسم الله,على ما بطن من مراده)تفسير الطبري1/50
وقيل إنَّ البسملة قسمٌ من الله تعالى,وذكر ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى فقال فيها(قال العلماء:بسم الله الرحمن الرحيم قسمٌ من ربنا أنزله عند رأس كل سورة,يقسم لعباده إن هذا الذي وضعتُ لكم يا عبادي في هذه السورة حقٌّ,وإني أفي لكم بجميع ما ضمنتُ في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري)الجامع لأحكام القرآن1/91
قال ابن منظور في لسان العرب(والرحمة في بني آدم عند العرب رقة القلب وعطفه,ورحمة الله عطفه وإحسانه ورزقه,والرُّحم بالضم الرحمةُ,وما أقرب رُحم فلان إذا كان ذا مرحمة وبرٍّ,أي ما أرحمه وأبرَّه)12/230
وأما معنى الوصفين(الرحمن - الرحيم) فهما مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة,و(الرحمن) عند المفسرين أعم وأشمل وأشد مبالغة من (الرحيم) وسبب ذلك عندهم هو قولهم بأن الرحمن وصفٌ لله تعالى يعم رحمته بالمؤمنين ويعم كذلك رحمته بغير المؤمنين من خلقه,فالرحمان هو ذو الرحمة التي تشمل الأمم والخلائق جميعها في دار الدنيا,أما الرحيم فهو وصف مبالغة من الرحمة أيضاً ولكن المفسرين يقولون:إنه يخص رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين - فقط - يوم القيامة قال الشيخ الشنقيطي- رحمه الله - في أضواء البيان
وعلى هذا أكثر العلماء,وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا)1/40..
إلا أنه رحمة الله عليه استشكل على هذا القول وأجاب عن الإشكال فقال:
(فإن قيل:كيف يمكن الجمع بين ما قررتم وبين ما جاء في الدعاء المأثورمن قوله صلى الله عليه وسلم(يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)؟؟
فالظاهر في الجواب والله أعلم أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا,لكنه لا يختص بهم في الآخرة,بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضاً,فيكون معنى رحيمهما رحمتَه بالمؤمنين فيهما,والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضاً أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى(هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً) لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته,وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمةٌ بهم في الدنيا,وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضاً)1/40